عادة ما ينجح الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي فاز بالانتخابات بطريقة أو بأخرى، في التغلب على الأزمات من خلال استخدام خطابات تضرب على وتر المشاعر التي يقدسها المجتمع، لكن أزمة العملات الأجنبية والتمويل ليست حالة يمكن التلاعب بها أو التستر عليها من خلال خطابات الدين والوطن لأن هذه الأزمة تتجاوز، بكثير، الإجراءات للسياسة الداخلية التركية، وتؤثر أيضاً في العلاقات الاقتصادية الدولية.
خلال الأيام القليلة الماضية نشر مجلس العلاقات الخارجية (CFR)، أحد أبرز مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة، تقييماً شاملاً يشير إلى أن تركيا تتجه نحو أزمة عملات أجنبية بسبب استنفاد احتياطات العملة الأجنبية في البنك المركزي التركي.
أثار انتباهي بعض النقاط اللافتة إلى النظر الواردة في التقرير، خصوصاً الحديث عن أن تركيا على وشك استنفاد احتياطاتها من العملات الأجنبية القابلة للاستخدام الفعلي، فإما أن تبيع ذهبها أو أن تدخل في حالة تعثر، أو توافق بمرارة على برنامج صندوق النقد الدولي.
التقرير أفاد بأن تركيا تواجه خطر أزمة توازن الدفعات التقليدية.
لسوء الحظ، سيجعل هذا أنقرة عاجزة على الطاولة في مواجهة الدول التي ستبرم اتفاقيات قروض.
يسخن الاقتصاد التركي حالياً أكثر من اللازم مما يجعل الحكومة في أنقرة عاجزة عن الاقتراض من الخارج، بالتالي سيؤدي تخفيض احتياطاتها من النقد الأجنبي إلى اتساع الفجوة بين وارداتها وصادراتها.
الدين العام ليس عالياً، ولكن البنك المركزي اقترض من البنوك التركية وبلدان أخرى مقداراً لا يستهان به من العملة الأجنبية، لتنفقها أنقرة ما اقرضته دفاعاً عن الليرة التركية.
الآن يمكن أن تحدث أزمة مالية أسوأ من أزمة مالية قياسية مرت بها البلاد، بخاصة بعد أن أقرضت البنوك التركية البنك المركزي (وعلى نطاق أقل الحكومة مباشرة) كثيراً من المال، لدرجة أن الناس إذا أرادوا استعادة ودائعهم فلن تتمكن الحكومة من القيام بذلك.
إضافة إلى أزمة احتياطات العملة الأجنبية تواجه تركيا أيضاً خطر الأزمة المالية بسبب الحاجة إلى التمويل الخارجي. هنا يشار إلى أن العجز التجاري في عام 2021 كان أقل من 20 مليار دولار، ويبدو أنه بنهاية عام 2023 سيصل إلى 60 مليار دولار.
لا توجد أي إشارة في بيانات التجارة إلى أن الفجوة بين الواردات والصادرات ستضيق تلقائياً، فلا تزال الزيادة في الواردات أعلى من نظيرتها في الصادرات. ويمكن تغطية العجز الخارجي إما بالاقتراض من الخارج أو ببيع الأصول الحالية.
أنا أسمع أنباء جديدة عن جهود تبذل لبيع بعض المؤسسات الحكومية ذات القيمة التجارية على المستوى الدولي. للأسف لا تستطيع تركيا الحصول على التمويل الخارجي بالقدر الذي تريده بسبب هذه المشكلات التي تشبه تأثير الدومينو.
وفي حين أن سعر الفائدة الأساسي يبلغ 8.5 في المئة يتجاوز معدل التضخم 40 في المئة (هذا وفقاً للبيانات الرسمية، لكنها بحسب البيانات غير الرسمية أعلى بكثير). ولا يرغب المستثمرون الأجانب في الاحتفاظ بأصولهم بالليرة التركية في بيئة تظل فيها أسعار الفائدة على العملة المحلية منخفضة بشكل مصطنع ويكون هناك خطر واضح لفقدان قيمتها.
ولا يزال الدعم المقدم من دول الخليج غير كاف. والنتيجة هي عجز خارجي يتجاوز قدرة تمويل السوق، مما يؤدي مباشرة إلى المشكلة الثانية لتركيا… احتياطاتها من العملات الأجنبية آخذة في النفاد، وبالفعل تم تمويل العجز الخارجي لعام 2023 بشكل كبير من خلال بيع الاحتياطيات.
تشير بيانات ميزان المدفوعات إلى أنه على رغم تدفق ستة مليارات دولار في الربع الأول من السنة فلا يزال هناك انخفاض بقيمة 14 مليار دولار.
صحيح أن البنك المركزي التركي اقترض أكثر من 10 مليارات دولار من الخارج، إلا أن الاحتياطيات انخفضت بمقدار 30 مليار دولار على أساس سنوي.
تمتلك تركيا حالياً 48 مليار دولار من الاحتياطيات الأجنبية و50 مليار دولار من الذهب، ومع ذلك، ليس كل الاحتياطي الأجنبي البالغ 48 مليار دولار متاحاً للاستخدام، فهناك 19 مليار دولار هي اتفاقيات التبادل (سواب) مع قطر والإمارات العربية المتحدة.
بالتالي تحتفظ تركيا بجزء كبير من احتياطاتها بالريال القطري والدرهم الإماراتي، وكلاهما مرتبط بالدولار، مما يعني أن الاحتياطي الأجنبي الحقيقي حالياً قريب من 30 مليار دولار. وهذا لا يعني كثيراً من الاحتياطيات لاقتصاد يعاني عجزاً في الحساب الجاري يبلغ 60 مليار دولار ويبيع منذ بداية العام أكثر من خمسة مليارات دولار شهرياً إلى السوق للحفاظ على استقرار الليرة التركية.
بحسب سرعة بيع الاحتياطيات في الأسابيع القليلة المقبلة، وبحسب حجم وتكوين الشريحة المالية الأخيرة المقدمة من دول الخليج العربي قد تنفد الاحتياطيات الصالحة للاستخدام في وقت ما من هذا الصيف.
ويبلغ حجم العملة الأجنبية التي اقترضها البنك المركزي التركي محلياً 130 مليار دولار. وقد حصل على 20 مليار دولار كودائع من الخارج (20 مليار دولار مقايضة مع الخليج)، لذا فإن إجمالي التزامات البنك من العملات الأجنبية يبلغ نحو 150 مليار دولار، في حين أنه ليس لديه إلا 30 مليار دولار فقط.
النتيجة… هناك انكماش 30 في المئة منذ الانتخابات ولم يلحظ الشعب التركي ذلك. إنه كان انكماشاً خفياً إلى حد ما. ولا تزال المعارضة مشغولة بمشكلاتها الداخلة في الوقت الحالي، جراء فشلها في الانتخابات!
من ناحية أخرى، يتم إلهاء الجماهير بأن الأموال الساخنة ستأتي من السياحة، ولكن الحقيقة هي أنه بحلول نهاية الصيف تقترب موجات التضخم من تركيا.
من الإيجابي أن يعين رجب طيب أردوغان محمد شمشك الذي أعرفه شخصياً ورافقته في سفره إلى مصر في القمة الاقتصادية، فهو شخص إيجابي، ولكن يبدو أن السيطرة كلها ليست في يد شمشك.
ومن يدري لعل رجب طيب أردوغان لا يرغب في أن يتحسن الاقتصاد كثيراً بشكل كبير، لأنه بهذه الطريقة قد يرغب في الحفاظ على استقرار الشعب من خلال جعلهم يعتمدون على شخصه والصدقات التي ستقدمها الحكومة. نعم، هذا ممكن.